الهادي الهروي اعتبر أن البارون إقطاعي في قلعته ويستعمل المال للإغراء والحماية
تؤكد الأدبيات السوسيولوجية أن المجتمعات ليست ساكنة بطبيعتها، والمجتمع المغربي واحد منها تتمظهر ديناميكيته فيما اتخذه، أخيرا، من إجراءات إصلاحية هيكلية وفي حركية قانونه التشريعي وتفعيله بهدف الحفاظ على أمن الدولة والمؤسسات الخاصة والعامة واستتباب الاستقرار الأمني وحرية المواطنين وحمايتهم من كل أشكال الإجرام والفساد بما في ذلك المخدرات. لهذا الغرض تسخر الدولة كل وسائل العنف المشروع ، ومنها جهاز الأمن باختلاف أنواعه.
وبحكم التطور والنمو العمراني والانفجار الديموغرافي الذي يشهده البلد وتزايد القدرة الاستهلاكية المتنوعة والميل الجنوني للثروة والرفاه، غدت طرق الاغتناء، المباحة والممنوعة، أمرا مشهودا بما فيها الاتجار في المخدرات. وقد لوحظ في الأيام الأخيرة، اهتمام بمكافحة عفن المخدرات وبلواها من طرف الأجهزة الأمنية ومحاولة تجفيفها من ينابيعها وأصولها وإخضاع أباطرتها للمحاكمة والقانون والعقوبة. في هذا الإطار شرعت المصالح الأمنية الوطنية في إستراتيجية تفكيك الشبكات الدولية والمحلية التي تنشط داخل التراب الوطني والمياه الإقليمية في الاتجار في المخدرات ومحاربة أباطرتها المفترضين. غير أن هؤلاء ينسجون علاقات مع رجال الأمن بكل أنواعهم ودرجاتهم ورتبهم ليتسنى لهم الإفلات من المراقبة والمتابعة القضائية والعقوبة. فما يمارسه أباطرة المخدرات من نشاط في ميدان ممنوع قانونيا أغدق عليهم بالتالي ثروة هائلة، يعتبر هذا النشاط في علم الاجتماع السياسي عصيانا وفي القانون إجراما دام دون عقاب لمدة طويلة، أوهمهم بأنهم باتوا أقوياء ولهم بالتالي الحق في شراء كل شيء بما في ذلك رجال الأمن. وقد تحقق لهم ذلك في كثير من اللحظات التاريخية بمناطق الشمال، وما تورط أزيد من 70 عنصرا من عناصر الأمن بالبحرية الملكية والدرك الملكي والقوات المساعدة، (وفي ملف سابق اعتقال 7 منهم أودعوا بسجن عكاشة) إلا دليلا على نوعية العلاقة التي تجمع بين بعض أباطرة المخدرات، من أمثال «الديب، والشريف بين الويدان والأخوين بوذراع وأدردب»، وبين بعض عناصر الجهاز الأمني.
لقد كان إمبراطور المخدرات أو البارون في قلعته يبدو بمثابة إقطاعي جديد، يكون أقنانا وتابعين بموجب الولاء والطاعة والسخرة ويقدمون له الحماية والخدمة القنية ويحميهم ماديا ومعيشيا مثلما هو الأمر بالنسبة للأخوين المذكورين (بودراع وأدردب) اللذين ينشطان ب»بوزغلال» ولهما حراس يحميانهما بمنزلهما الفخم الغابوي، حيث دخلا مع رجال الشرطة القضائية في مواجهة اضطروا لاستعمال الرصاص الحي. تثبت هذه الواقعة أن آلة التغيير والإصلاح ومحاربة الفساد بكل أنواعه بدأت تدور، وأن أجرأة القانون ومحاربة أباطرة المخدرات، مهما كانت هويتهم ووضعياتهم وموقعهم الاجتماعي، ومعاقبة رجال الأمن المتورطين بالارتشاء والزبونية وغض الطرف ضرورة فرضتها آليات الحراك السوسيولوجي للمجتمع. فمن البديهي أن الاتجار في المخدرات وما يستتبعه من علاقات زبونية ورشوية والسكوت عن الصفقات الكبرى هو جزء من العراقيل البنيوية المعيقة للنمو المجتمعي وللحرية وللحق في الأمن النفسي والصحي للمواطن المغربي. بذلك يعمل أباطرة المخدرات على إتلاف الصحة الجسمية والنفسية والعقلية للمجتمع، أي تخريب الطاقة البشرية البناءة للمجتمع. ويؤكد المركز الإستشفائي ابن رشد بالدار البيضاء ومستشفى الأمراض العقلية بطيط مليل ومستشفى العياشي بسلا صدق ارتفاع نسبة المدمنين والمرضى العقليين والنفسيين الذين كانوا ضحية أباطرة المخدرات، الذين تاجروا وكسبوا عائدات مالية ضخمة على حساب صحة أبناء الشعب، في غياب مراقبة أمنية صارمة لأنشطتهم وتخاذل بعض كبار ضباط الأمن المتورطين والمرتشين.
من هذا المنطلق، يمكن تصنيف أباطرة المخدرات ضمن أولئك الذين يمسون بأمن الدولة وبهيبتها، ومهمة الجهاز الأمني وواجباته هو حماية هيبة الدولة ومكافحة الجريمة وليس التفريط فيها من أجل الظفر ببعض الفتات المادي الذي يجود به تاجر المخدرات على بعض العناصر الأمنية التابعة له. فمن الوسائل التي يوظفها هؤلاء الأباطرة، البحث عن إمكانية إغراء أكبر عدد من عناصر الأمن والتودد لكبارهم رتبة ومصاحبتهم وتقديم الهدايا وإقامة الولائم والسهرات واستدراج المحرومين منهم للاستمتاع بكل أصناف المتع والمجون وتسجيل ما يفعلون وجمع أكبر المعلومات عنهم لتوريطهم في حال اعتقالهم. وقد يورطون بدورهم عناصر أخرى أقل رتبة، ويستمر مسلسل التورط إلى رجل القوات المساعدة البسيط المحتاج والمحروم، الذي يكون في وضعية القابلية النفسية والضرورة البيولوجية لتقبل رشوة أقل. ولعل تورط بعض رجال الأمن في مثل هذا السلوك غير مبرر سوسيولوجيا ومدان قانونيا لأنه يعبر عن بعض جوانب الخلل الهيكلي في التفاني في أداء الواجب الوطني. كما يعبر عن تآكل مفهوم المواطنة وقيم الالتزام والمسؤولية لدى بعضهم، قبل أن تترسخ فيهم تلك القيم كماهية و كمعيار. فإذا كان الكثير من شرفاء رجال الأمن يتعرضون للتهديد والضرب والشتم والوعيد من طرف عصابات أباطرة ومافيات المخدرات التي تلجأ في العديد من المواجهات إلى استعمال السلاح الناري ويتفانون في أداء واجبهم الوطني بعزة وكرامة، فإن البعض منهم ما زال يحمل في جمجمته مخلفات الدولة البوليسية المبنية على الأنانية (أنا سيد الطريق) والإفراط في احتقار المواطنين والاغتناء الفوري بكل الوسائل اعتمادا على قاعدة «دعه يفعل دعه يمر ما دام يدفع».
ومن الفرضيات السوسيولوجية الأكثر صلاحية المفسرة لشخصية العنصر الأمني المتعاون مع بارون المخدرات، أنه شخص قد يكون عانى الحرمان المادي والعاطفي في صغره، فرغم مهنته النبيلة، فإن لديه شعورا بأنه فرد منبوذ، وعاجز عن الالتزام بكل ما هو وطني ومعياري ونظامي، وتضعف عنده دوافع الشعور بالمواطنة الحقة والواجب. كما ينعدم عنده الوعي الأخلاقي الذي يمكنه من التمييز، في الفعل، بين الخير والشر، النافع والضار. وقد يكون لديه شعور بالظلم والغبن على إثر تمييز فئوي أو طبقي، الأمر الذي خلق لديه ارتكاسا ولد فيه شعورا بالازدراء والتهميش.
وعليه، تعتبر الرشوة والميول السيكولوجي للانحراف عن المسار الوظيفي للمهنة الأمنية والرغبة المفرطة في الحصول على الثروة إعلاء وتعويضا لكل أشكال هذا الحرمان. ومن الحتمي أنه إذا لم تتوازن تطلعات الأفراد والجماعات مع ما يقدمه المجتمع من مكافآت أو حوافز، فإن الفجوة بين تلك الرغبة وتحقيقها قد يدفع بعض موظفي المجتمع إلى الانحراف. إن تفادي الرشوة وانهيار الواجب الوطني يستوجب توفر ثقافة أمنية وقانونية وأخلاقية عالية لدى أغلب من ينتسب إلى الجهاز الأمني. كما أنه من الضروري، حتى لا تكون الدولة في حالة فوضى أو توجد في وضعية اجتماعية غير منظمة بنيويا، ملزمة بأن تلجأ إلى سن معايير تضبط المنحرفين من أجهزتها الأمنية المتعاونين مع كبار تجار المخدرات وتراقبهم بموجب بنود قانونية ومساطر قضائية زجرية. لكن السؤال الذي يستمد مشروعيته من خلال هذا المتن السوسيولوجي لظاهرة علاقة بعض أجهزة الأمن بأباطرة المخدرات هو:
«هل ينبغي أن يكثر سقوط أباطرة المخدرات لكشف مسؤولين في الأمن متورطين، ليس لهم وازع وطني ومسكونين بهوس الاغتناء الغير المشروع»؟