* تناسلت مؤخرا حوادث انتحار رجال الشرطة، ما السبب في ذلك من وجهة نظر علم الاجتماع؟
** أصبحت ظاهرة الانتحار تهم مجموعة كبيرة من المواطنين، حيث صرنا نقرأ يوميا في الصحف الوطنية حالات الانتحار التي أضحت مشهدا عاديا في حياتنا اليومية. بل الأكثر من ذلك، بدأنا نسجل حالات انتحار حتى في المناطق التي يكاد يكون فيها مفهوم الانتحار غائبا، كالفضاءات والجماعات القروية، وصرنا نجد بعض الأشخاص المنتحرين ينتمون لفئات عمرية كبيرة ما بين 50 و60 سنة، أي أن ظاهرة الانتحار اقتحمت مجالنا الاجتماعي وأصبحت أمرا عاديا. أما بخصوص تنامي هذه الظاهرة لدى رجال الأمن، فأعتقد أن هناك عوامل أخرى تتحكم في ذلك، أبرزها الضغط اليومي الذي يتعرض له رجل الأمن من طرف رؤسائه ومن طرف الأشخاص الذين يقصدون مخافر ومراكز الشرطة من أجل قضاء أغراضهم. زد على ذلك أن عددا كبيرا من رجال الشرطة يكلفون بمهام التدخل عندما تنظم مظاهرات ومسيرات احتجاجية، وبالتالي أصبحت مهامهم صعبة ومحفوفة بالمخاطر، ضحايا عكس ما كانت عليه في السابق، حيث كانت تمنح صاحبها حصانة مجتمعية وسلطة. اليوم رجل الشرطة يعيش مشاكل يومية في تدبير علاقته مع المواطنين. كل هذا يولد رغبة في الانتحار عند بعض الأشخاص الذين يعانون، بالإضافة للمشاكل المهنية، ضغوطات اجتماعية وأسرية. هذا مع العلم أن قرار الانتحار جزء كبير منه مرتبط بالحالة النفسية التي يمر منها الشخص المنتحر، بمعنى أنه لا يكفي أن تكون هناك وضعية اجتماعية صعبة كي يقدم بعض الأشخاص على الانتحار، بل لا بد أن يكون ذلك مرفوقا بحالة نفسية لشخصية تجد صعوبة في الاندماج مع المحيط ومعاناتها من مشاكل عميقة تتخبط فيها منذ سنوات...
* قلت إن ضغط العمل عامل من العوامل التي تدفع بعض رجال الشرطة إلى الانتحار، لكن نعلم أن ضغط العمل هو أمر يوجد في العديد من الوظائف، وليس أمرا خاصا بوظيفة رجل الأمن، فهل تواتر حوادث الانتحار داخل رجال البوليس يعود بالأساس لامتلاكهم السلاح؟
** كي نتكلم في إطار علمي مضبوط، فتسليط الضوء على انتحار رجال الشرطة عوض غيرهم من العاملين في الوظائف العمومية ربما يعود بالأساس لأن انتحار شرطي يعد موضوع مهما بالنسبة للصحافة، وبالتالي يتم تغطية هذه الأحداث.. أما انتحار الناس العاديين فقليلا ما يتم تداوله في وسائل الإعلام. ففي غياب إحصاءات تبين لنا نسبة الانتحار داخل الأجهزة الأمنية مقارنة مع المواطنين العاديين، لا يمكننا أن نعرف بشكل دقيق هل هذه الانتحارات مقلقة أم أن الأمر عادي. ما نلاحظه في دول أخرى هو أن هناك حالات لانتحار رجال الشرطة، وهذا يعود بالأساس لطبيعة مهنة رجل الأمن لأنها مهنة صعبة وجد حساسة فيها ضغط وتوتر ومواجهة مستمرة مع المواطنين، بالإضافة إلى هذا امتلاك السلاح، لأن كثيرا من الأشخاص الذين يفكرون في الانتحار يكون عندهم مشكل اختيار الطريقة التي ستتم بها عملية الانتحار. وبالنسبة لرجال الشرطة، وبما أنهم يمتلكون سلاحا ناريا، فإنه على الأقل لا يكون عندهم مشكل اختيار الطريقة، لأنهم يستعملون السلاح المهني لتنفيذ الانتحار.
* في السنوات العشر الأخيرة تم تسليط الضوء بشكل كبير على جهاز الأمن، هل هذا الأمر عادي من وجهة نظر علم الاجتماع، أم أن هناك تفسيرا آخر؟
** نحن نعلم أن المهام التي يقوم بها رجال الأمن هي مهام على جانب كبير من الأهمية والمسؤولية، ودور الجهاز ضروري بالنسبة لاستتباب الأمن وشعور المواطنين بالراحة النفسية وممارستهم لأنشطتهم وهواياتهم اليومية. وبالتالي كلما كانت ظروف ممارسة المهنة لرجل الأمن مناسبة، كلما كان أداؤه مرتفعا. وهذا ما يجعل جميع الدول تعمل على تمتيع رجال الأمن بجميع التسهيلات المادية والمعنوية التي تساعدهم على إنجاز مهامهم في أحسن الظروف.
* كي أوضح أكثر، في السنوات الأخيرة تم تسليط الضوء على الجهاز وتداول أخبار سلبية في حق المنتسبين إليه، كتورط بعض رجال الأمن مع تجار المخدرات والتهريب والتزوير، والرشوة، الأمر الذي عكس صورة مشوهة لهذا الجهاز. ألا ترى أن ترويج مثل هذه الصورة يؤثر على هيبة الدولة؟
** هذا صحيح، فمنذ عقود طويلة هناك صراع بين المجتمع والدولة. وهذه الأخيرة ينظر إليها من طرف غالبية أفراد المجتمع كسلطة قاهرة موجودة فقط من أجل قمع المواطنين والضغط عليهم وفرض الأمن والنظام بأي طريقة، وبالتالي كل رموز الدولة وكل الأشخاص الذين يشتغلون في المؤسسات يتحملون هذا العبء. لكن نجد بالخصوص رجال الشرطة هم الذين يتحملون النصيب الأكبر من تداعيات هذا الصراع، لاسيما أن هذا الجهاز هو الذي يجسد دور الدولة السلبي في جانبها القمعي، وهذا ما يجعل المواطن ينظر لرجل الشرطة، ليس إلى ذلك الشخص الذي يحمي الممتلكات ويحافظ على أرواح الناس، بل يرون فيه رجلا يقمع المتظاهرين ويقف في وجه حرية الأشخاص. كل هذا يجعلنا ننظر بالكثير من السلبية لعمل رجل الأمن ولتصورنا لمهامه بصفة عامة...