لمعرفة الأسباب الدقيقة التي تقف وراء إقدام رجال الشرطة على وضع حد لحياتهم باستعمال سلاح الخدمة، طرحت «الوطن الآن» هذا السؤال على عدد منهم، وذلك حتى يطلع القارئ عن قرب على «الطنجرة المضغوطة» التي تمارس داخلها هذه الشريحة عملها، والتي قد تقود في العديد من الحالات إلى تسجيل انتحارات في صفوف الشرطة..
ضرورة الكشف الدوري لدى طبيب نفساني
لا يختلف اثنان على أن رجل الأمن عرضة لمجموعة من الإكراهات، سواء المادية منها، أو صعوبة العمل وغياب أدنى شروط العمل البسيطة، و«الحكَرة» التي تنهال علينا من طرف بعض المسؤوليين. لكن هذا لا يشرعن عملية الانتحار، لأن من قاموا (أو يقومون) بهذا الفعل هم في الغالب أشخاص يعيشون اضطرابات نفسية، وربما دخلوا في حالات اكتئاب حادة دفعتهم للانتحار. لقد كان بإمكان رؤسائهم المباشرين في العمل تقييم سلوكهم. تخيل معي لو كانت الإدارة تفرض علينا كشفا دوريا أو سنويا لدى طبيب نفساني، ألن يساعد ذلك في اكتشاف جل الحالات التي تعاني من مشاكل نفسية؟ حتما كنا سنحد من حالات الانتحار وسيساعد الخبير النفسي بعض الزملاء في تجاوز مشاكلهم سواء في العمل أو داخل الأسرة...
الإرهاق والضغط وقلة النوم
أعتقد أن الخلل يكمن في الطريقة التي يشتغل بها جهاز الأمن، والأعباء الكثيرة التي يتحملها رجل الأمن في ظل غياب التحفيز وغياب الاهتمام. أنا أشتغل في الجهاز لأزيد من 8 سنوات، ولم يسبق لي أن خضعت لأي تقويم نفسي، بل لم أسمع يوما أن المديرية العامة للأمن الوطني أرسلت مختصين نفسانين لدائرة أمنية معينة لتقييم سلوك بعض الزملاء الذين تبث في حقهم استعمال العنف سواء ضد زملائهم أو ضد بعض المواطنين. لو كانت الإدارة العامة تضع ضمن أولوياتها الصحة النفسية لعناصرها، لربما قللنا من حوادث الانتحار.. فما فائدة أن ترفع من الأجور داخل جهاز يعاني جل عناصره من الإرهاق والضغط وقلة النوم وضعف وسائل العمل، وغالبيتهم لا يمتلكون سكنا يحترم أهمية الدور الذي يقومون به...
الإعلام وراء الإثارة
ظاهرة الانتحار هي ظاهرة إنسانية منذ الأزل وعندما يقدم الفاعل على الانتحار فهو يفعل ذلك كإنسان يختار أن يضع حدا لحياته ويرحل بسره، ولكن التأويلات هي التي تعطي تفسيرات على ما أقدم عليه إما لأسبابه الشخصية عاطفية أو عائلية أو مادية وحتى أجيب على سؤالك لماذا إقدام رجال الأمن في الآونة الأخيرة على الانتحار؟ فينبغي الإشارة إلى أن وسائل الإعلان الكثيرة والمتنوعة هي التي تخلق من انتحار رجل أمن حدثا. والأكيد في نظري أن الإرهاق وضغط العمل ليسا من دواعي الانتحار.
التضييق السيكولوجي
بداية حالات انتحار في صفوف رجال الأمن في بلادنا معزولة جدا، ومع ذلك ففي اعتقادي أن وجود «الفردي» باستمرار على مرمى اليد، ناهيك عن التواجد الجسدي بكل انفعالاته عن قرب في مواجهة مسارح الجريمة من فتك وتصفية وتقتيل، أحيانا في صوره البشعة، إلى جانب ترسبات أخرى يصعب حصرها.. مثلا إذا كانت نفسية الشخص (رجل الأمن) ضعيفة ومهتزة بفعل بعض العوامل المتداخلة، قد تكون عاطفية، مادية، عائلية أو مهنية أحيانا (التورط في قضية فساد مثلا)، أمور قد تجتمع وتدفع بصاحبها إلى سلوك طريق الانتحار. لابد من إخراج رجل الأمن، في رأيي، من بوتقته إلى صروف حياة الناس العادية، كي ينعكس ذلك على نفسيته، وعلى حياته الاجتماعية والأسرية، فعامل الإنهاك وضيق هامش الحرية عوامل قد تنضاف إلى خانة التضييق السيكولوجي على الشخص، ومن ثم قد تكون بداية دخوله سراديب مظلمة، تؤدي به في النهاية إلى اتخاذ قرار لا تحمد عقباه. حين أسمع بانتحار رجل أمن تنتابني هواجس لا أعرف مصدرها...
البوليسي ليس سوبرمان
هناك، وهذا تصور يجانب الصواب في نظري، من يرى في «رجل الأمن» سوبرمان، بينما حقيقة الأمر أن البوليسي هو من لحم ودم في نهاية المطاف، «بحالو بحال عباد الله»، حتى وإن كانت مسالك وشحنات تكوينه تذهب أحيانا في هذا الاتجاه، أي تكوين الرجل السوبرمان، في صورة الصلابة والتميز عن باقي عموم الناس، بقصد مواجهة مختلف الاحتمالات في الساحة بالقوة اللازمة، ومجابهة كل الأضرار النفسية المترتبة عنها... ومن هنا يبقى، بالرغم من ذلك، حصول الانعطافات الفجائية (الانتحار مثلا) وارد أيضا.. في بلادنا تبقى حالات انتحار رجال الأمن المسجلة، والتي تتداولها الصحافة، ضعيفة للغاية، لا تستوجب، من وجهة نظري، كثيرا من الاهتمام...
القروض مشنقة رجال الأمن
إن أسباب الانتحارات التي بدأت تتناسل في صفوف رجال الأمن ترجع، في نظري، إلى عدة أسباب لعل أهمها هي القروض البنكية تحت طائلة الضائقة المالية ومتطلبات الحياة الأسرية. فإذا نظرنا إلى الأجر الذي يتقاضاه رجل الأمن سنجده لا يفي بتلبية مصاريف الحياة، مما يجعل رجال الأمن يستنجدون بالقروض لتغطية مصاريف الحياة أو لشراء منزل، لكن سرعان ما يواجهون إكراهات الواقع التي تقودهم للانتحار. وأرى أن 99 في المائة من حالات الانتحار تعود بالدرجة الأولى لهذا السبب.
التوقيف عن العمل
هناك حالات الانتحار التي تكون بسبب الطرد أو العزل والتوقيف عن العمل، والذي قد يكون بموجب مخالفات قانونية كبرى، أو بسبب غير قانوني. فالإحساس بالغبن يعد من العوامل النفسية التي قد تكون من وراء الانتحار، خصوصا إذا كان الموقوف متزوجا ويعيل أسرة.
مراحل الانتحار
جون فيولنتي، الذي تخصص في «سيكولوجية رجال الأمن» بالولايات المتحدة الأمريكية، صنف مراحل الانتحار إلى ثلاثة مستويات:
- المستوى الأول: تمثل فعل الانتحار كحل محتمل للمشكل القائم.
- المستوى الثاني: نداء إغاثة، وحديث الناس عن فعل الانتحار، وتداول همس وتفسيرات وإشارات ذات الصلة بالشخص والفعل.
- المستوى الثالث: قرار الانتحار، بتبني الخلاصة الخطأ، وأن كل شئ بعد الانتحار سيعود إلى مجراه الطبيعي.
ضعف الإيمان وغياب التوازن النفسي
تناسل حوادث انتحار بعض الزملاء من رجال الأمن أصبح يستدعي فتح حقيق عاجل لمعرفة الأسباب الحقيقة وراء الانتحار. صحيح أننا نعيش في ظل وضع لا نحسد عليه كضعف الأجور، لأن 5000 درهم مبلغ غير كاف في المدن الكبرى، وتنامي الأخطار المهنية بسبب تصاعد وتيرة الجريمة، إضافة لقلة الإمكانيات اللوجستيكية، وساعات العمل الإضافية، والتنقلات التعسفية بدون موجب حق أو بسبب الأخطاء المهنية، وتوقف الترقيات. هذه كلها عوامل تزيد من تفاقم مشاكل رجال الشرطة بصفة عامة، خاصة تلك الشريحة التي تؤدي واجبها بصدق وأمانة.. وهي عوامل عادية قد نجدها في جميع الوظائف، وهذا يعني أن إقدام البعض على الانتحار يكون وراءه ضعف الإيمان وغياب التوازن النفسي.
«راه تنعيشو في العذاب«
لماذا كلما انتحر رجل أمن بمسدسه تخرج علينا الصحف بمشاكل عائلية وعاطفية ومشاكل مالية. جميع المغاربة لهم هذه المشاكل، فلماذا لا نسمع عن وجود حوادث انتحار عند موظفي الجماعات المحلية أو الممرضين أو رجال التعليم. إن هذا الأمر هو أكبر من ذلك، يستدعي فتح نقاش مؤسساتي في الموضوع داخل الجهاز تفاديا لمزيد من هذه الحوادث المؤلمة. أنا هنا لا أبرر سلوك المنتحرين لأن ديننا توعد المنتحر بأقصى العقوبات في الآخرة، لكن ارتفاع عدد المنتحرين في البوليس يفرض علينا البحث عن الأسباب الحقيقة. «راه تنعيشو في العذاب». كيف يعقل أن تشتغل بعيدا عن أسرتك ليل نهار، وبأقل الإمكانيات، ودون أن تستفيد من العطل القانونية، وبدون تحفيزات... زيادة عن كل هذا فأنت تحت إمرة مسؤول لا يتكلم معك إلا بلغة السب والقذف والإهانة. تخيل معي أننا، ومنذ بداية الاحتجاجات في الشارع، نشتغل ولا نستفيد من العطل، ومع ذلك لا نسمع سوى الإهانة.